روائع مختارة | روضة الدعاة | الدعاة.. أئمة وأعلام | يونس بن عبيد.. قدوة المسلم المعاصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > الدعاة.. أئمة وأعلام > يونس بن عبيد.. قدوة المسلم المعاصر


  يونس بن عبيد.. قدوة المسلم المعاصر
     عدد مرات المشاهدة: 3721        عدد مرات الإرسال: 0

للقدوة في حياة الإنسان دور كبير في توجيهه ودفعه إلى التقدم والرقي، غير أن القراءة الانتقائية للتاريخ المسلم التي حصرت القدوة في مظاهر الصلاة الطويلة والصوم المتواصل أصابت المسلم المعاصر بشيء من الإحباط.

وجعلته يضعف في اتخاذ السابقين له قدوة، معللاً ذلك بقوله: "لكل زمان رجاله"، وحتى من اقتدى بهم فإنه قصر مفهوم الإسلام في هذه المظاهر، ولم ينتبه للخلل في بقية جوانب حياته.

وليس العيب في هؤلاء القدوات، ولكن العيب في القراءة الانتقائية لسيرهم؛ لأن قراءة شاملة لحياتهم كفيلة بتقديم صورة أشمل وأكمل للإسلام.

ولعل من هؤلاء الشخصيات التي تصلح قدوة للمسلم المعاصر هو "يونس بن عبيد" رحمه الله، فلم يكن يونس - رحمه الله- ممن اشتهروا بالعلم، ولا من أولئك الذين نقلت عنهم كتب السير أخبار خارقة في العبادة.

وإن كان له في كلا الأمرين نصيب. كما أنه لم يكن من المجاهدين حيث لم يكن يحسن الجهاد، بل كان تاجرًا، ومع انشغاله بالتجارة وبشئون السوق بلغ شأنًا عظيمًا في باب الزهد والورع، حتى قال له أحد المجاهدين: والله إنا نكون في نحر العدو، فإذا اشتد علينا الأمر قلنا: اللهم رب يونس فرّج عنا، فيفرج عنا.

قال عنه الذهبي في (سير أعلام النبلاء):  الإمام القدوة، الحجة، من صغار التابعين وفضلائهم، رأى أنس بن مالك، وحدث عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وعكرمة، ونافع مولى ابن عمر.. وجماعة، وحدث عنه خلق كثير.

قال علي بن المديني: له نحو مائتي حديث. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وقال أحمد وابن معين: ثقة.

أثر القدوة والصحبة في حياة يونس بن عبيد:

وقبل الحديث عن المجالات التي برز فيها "يونس بن عبيد"، لا بد أن نشير هنا إلى دور القدوة والصحبة في حياة يونس بن عبيد. فعلى صعيد القدوة، اتخذ "يونس بن عبيد" شيخه الحسن البصري قدوة له، ونقل عنه كثيرًا من أقواله وأحواله في الزهد.

ومن ذلك ما نقل عن يونس بن عبيد أنه قال: "ما رأيت أحدًا أطول حزنًا من الحسن، فكان يقول: نضحك ولعل الله قد يتحقق على أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئًا". وهذا الموقف سوف نجد آثاره فيما بعد في حياة يونس بن عبيد عند محاسبته لنفسه واحتقاره لعمله.

غير أن تأثره بشيخه الحسن البصري لم يقف عند هذا الحد بل بلغ شأنًا عظيمًا في حياة يونس بن عبيد، حتى إنه قال: "كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به، وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه".

وهنا نرى أن تأثير القدوة بلغ شأنًا كبيرًا في حياة يونس بن عبيد، فهو يتأثر بمجرد رؤيته لشيخه الحسن، ولبلوغ هذه الدرجة من التأثر لا بد من أسباب وشروط، أهمها طبيعة العلاقة بين المربي والمتربي، ثم صفات المربي الشخصية وتقواه وورعه، إلى آخر تلك الصفات.

وعن دور الصحبة في حياة يونس بن عبيد - رحمه الله- نجده يقول: "لا يزال الناس بخير ما داموا تختلج في صدر الرجل شيء، فيجد من يفرج عنه". وفي هذه العبارة بيان لأهمية الصحبة في حياة الإنسان ودورها الحقيقي المتمثل في التفريج عن الصاحب وإزالة ما بصدره من شبهات.

ويبدو أن يونس بن عبيد بذل جهودًا مضنية في البحث عن الصاحب المثالي المعين على الطاعة، يقول يونس بن عبيد: "ما أعلم شيئًا أقل من درهم طيب ينفقه صاحبه في حق أو أخ يسكن إليه في الإسلام، وما يزدادان إلا قلة".

وذلك لأن الصحبة عند يونس بن عبيد كان لها أبعاد إيمانية تمثلت في الاقتداء بالصاحب والتنافس معه في الخير، يقول يونس بن عبيد عن نفسه: "إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه". وبذلك المفهوم فإن الصحبة تكون عامل خير وسبب رقي وصلاح.

الملامح التربوية المميزة لشخصية يونس بن عبيد:

تميزت شخصية يونس بن عبيد بعدّة ملامح تربوية وضعته في مصاف المشاهير بالزهد والعبادة، على الرغم من أنه لم يكن منقطعًا للعبادة تاركًا للدنيا، وأهم ما ميّز شخصية يونس بن عبيد الملامح التالية:

1- القيام بواجب الوقت:

روى أهل السير عن سلام بن أبي مطيع قال: "ما كان يونس بأكثرهم صلاة ولا صومًا، ولكن لا والله ما حضر حق من حقوق الله إلا وهو متهيِّئ له".

هذا أول معلم مميز لشخصية يونس بن عبيد هو قيامه بما اصطلح عليه بواجب الوقت، ولقد لخص ابن القيم - رحمه الله- الأقوال المختلفة في تحديد أفضل الأعمال، وخلص إلى أن أفضل الأعمال هو القيام بواجب الوقت، فقال - رحمه الله- في مدارج السالكين:

"الصنف الرابع: قالوا: إنّ أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرد، كما في حالة الأمن.

والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل، والأفضل في أوقات السحَر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.

والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس:

الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بَعُد كان أفضل، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو بالبدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك، والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره، أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك..

والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك، والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.

والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنَّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.

والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت النوازل وإذاء الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم؛ فإنّ المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم، أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.

والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلَّله، فخلطتهم حينئذٍ أفضل من اعتزالهم.

فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه، يرى نفسه كأنَّه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد.

وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة، عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أُخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره.

فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العُبَّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم.

فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه..

فهذا هو المتحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] حقًّا، القائم بهما صدقًا، مَلْبَسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسَّر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليًا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حرّ مجرَّد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنَّى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه.

يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناسَ بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها.

فواهًا له! ما أغربه بين الناس! وما أشدَّ وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان".

فواجب الوقت في حياة المسلم هو الذي يكون مقتضى الوقت ووظيفته، فإذا أُذِّن للصلاة، انخلع المسلم من مشاغله وردّد مع المؤذن، ثم استعد للصلاة وسعى إليها، حتى لو كان مشغولاً بعمل صالح، فإنه يؤدي واجب الوقت، ثم يعود لمواصلة ما كان فيه من عمل.

2- الورع:

الورع من الأعمال الشرعية التي غفل عنها المسلمون اليوم، بل إنك تجد بين الدعاة من قد يجيد الحديث عن الورع إلا أنك تجده من أبعد الناس عن الورع في مسلكه الحياتي، على الرغم من أن الورع منه ما هو واجب وهو ترك المحرمات، ومنه ما هو مستحب.

وقد تعددت تعريفات الورع إلا أنها كلها تدور حول مضمون واحد هو "ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك والأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأحوط"، وعرّفه ابن القيم - رحمه الله- بقوله: "ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة".

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع في كلمة واحدة فقال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». فهذا يعم الترك لما لا يعنيه من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.

ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وقال بعضهم: "كنا ندع سبعين بابًا من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".

ولقد بلغ يونس بن عبيد مبلغًا عظيمًا في باب الورع، حتى كان واحدًا ممن عرفوه وأوضحوا السبل إليه. روى أهل السير عن عبد الله بن السندي قال: جاء رجل إلى يونس بن عبيد، فقال له: أنت يونس بن عبيد؟

قال: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. قال: وما حاجتك؟ قال: أريد أن أسأل عن مسألة. قال: سل عما بدا لك. قال: أخبرني ما غاية الورع؟ قال: "محاسبة النفس مع كل طرفة عين، والخروج عن كل شبهة". قال: فأخبرني ما غاية الزهد؟ قال: "ترك الراحة".

وتعريف يونس بن عبيد هو تعريف شامل للورع، فهو لا يقصر الورع على الناحية المالية فحسب كما يظن الكثيرون اليوم، بل إن الورع يشمل كل حياة الإنسان، فالمسلم يحاسب نفسه عند كل خاطرة، ويترك منها ما يضره في الآخرة.

ويوضح لنا يونس بن عبيد السبيل إلى الورع، فيقول: "لا شيء أيسر عليَّ من الورع، إذا رابني بشيء تركته". وهو يشير بذلك إلى المنهج الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم في الورع حينما قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

ويكشف يونس بن عبيد عن البعد الإيماني الذي يدفع المسلم إلى الورع ويحكم خطواته في الحياة، فيقول: "والله لو كان في الدنيا ذهب مكبوس يأخذ منها مَن شاء متى شاء إلا أن من أخذ شيئًا حوسب به، كان الواجب على العاقل ألا يأخذ منها إلا قوتًا". فالعاقل إذا كان سيحاسب على ما يأخذه ولو كان يأخذه بدون مقابل، فعليه إذن أن ينتبه لما يأخذ؛ لأنه إذا زاد في الأخذ زيد في حسابه، وبهذا البعد الإيماني ينضبط الورع في قلب المسلم.

نماذج من ورعه:

لم يكن يونس بن عبيد من أولئك الذين يحسنون الكلام ولا يجيدون الفعل، بل كان فعله يصدّق قوله. ها نحن نجده يحاسب نفسه حسابًا عسيرًا، فيقول عن نفسه: "إنه ليشتد عليّ أن أصيب الدرهم الواحد من حلال"، فهو يشتبه في أموال على الرغم من المنهج الصارم الذي اتبعه في معاملاته التجارية.

يقول مؤمل بن إسماعيل: جاء رجل من أهل الشام إلى سوق الخزازين فقال: مطرف (نوع من أنواع الحرير) بأربعمائة. فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتين. فنادى المنادي بالصلاة، فانطلق يونس إلى بني قشير ليصلي بهمز

فجاء وقد باع ابن أخته المطرف من الشامي بأربعمائة، فقال يونس: ما هذه الدراهم؟ قال: ذاك المطرف بعناه من ذا الرجل. قال يونس: يا عبد الله، هذا المطرف الذي عرضت عليك بمائتي درهم، فإن شئت خذه وخذ مائتين، وإن شئت فدعه. قال له: من أنت؟

قال: رجل من المسلمين. قال: أسألك بالله من أنت، وما اسمك؟! قال: يونس بن عبيد. قال: فوالله إنا لنكون في نحر العدو، فإذا اشتد الأمر علينا قلنا: اللهم رب يونس بن عبيد أو شبيه هذا. فقال يونس: سبحان الله، سبحان الله.

لا لقانون العرض والطلب:

وفي موقف آخر يكشف لنا يونس بن عبيد موقفه مما ساد بين التجار بما عرف بقانون العرض والطلب، والذي يجيزون به مضاعفة الربح في البيع والشراء بدعوى أن القضية قضية عرض وطلب، فيُروى أنه "كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمرّ إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة، فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة.

فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة، وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف، فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت! أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين. فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها. قال: فهلاّ رضيت له بما ترضاه لنفسك".

فهذا الموقف من يونس بن عبيد يبرز لنا أن للعملية الاقتصادية في الإسلام أبعادًا أخرى غير أبعاد الربح والخسارة، ولها قوانين أخرى غير قانون العرض والطلب؛ فللعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد دينية واجتماعية، فأما الدينية فمتمثلة في نصح المسلمين وعدم غشهم أو خداعهم، ويذهب البعد الاجتماعي أكثر من هذا، فيجعل المسلم لا يبيع شيئًا لأخيه أو يعقد صفقة إلا إذا كان يرضاها لنفسه، فإن رضيها لنفسه أتمها، وبارك الله له فيها.

ولم يكن هذا موقفًا فريدًا من يونس بن عبيد، بل كان منهج حياة، ها هو نجده تأتيه امرأة بجبة خز فقالت له: اشترها. فقال: بكم تبيعيها؟ قالت: بخمسمائة. قال: هي خير من ذاك. قالت: بستمائة. قال: هي خير من ذاك. فلم يزل يقول: هي خير من ذاك، حتى بلغت ألفًا وقد بذلتها بخمسمائة.

فكان يونس بن عبيد إذا باع باع بأرخص الأثمان، وإذا اشترى اشترى بأغلى الأثمان، وليس ككثير من الناس اليوم، وكان من منهجه في التجارة النصح والتبيان لمن يتعامل معهم، مثال ذلك أن يونس بن عبيد كان يشتري الإبريسم (الحرير) من البصرة، فيبعث به على وكيله بالسوس، وكان وكيله يبعث إليه بالخز، فإن كتب وكيله إليه أن المتاع عندهم زائد، لم يشتر منهم أبدًا حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد.

وورع يونس بن عبيد من أن يدخل ماله درهم حرام، جعله يتنازل عن أموال كثيرة بسبب الشبهة، يقول مسلم بن أبي مضر: "كانت بضاعة فجلسنا يومًا ننظر في حسابنا ويونس جالس، فلما فرغنا من حسابنا، قال يونس: كلمة تكلم بها فلان داخلة في حسابنا. قلنا: نعم. قال: لا حاجة لي في الربح، ردوا عليّ رأس مالي. وأخذ رأس ماله وترك ربحه أربعة آلاف". ويبدو أن الكلمة التي تكلم بها فلان هي كلمة زيّن بها البضاعة، أو حاول أن يؤثر بها على سير البيع والشراء.

ويوضح ذلك موقف آخر ليونس بن عبيد يحكيه أبو عبد الرحمن المقري فيقول: "نشر يونس بن عبيد يومًا ثوبًا على رجل، فسبح رجل من جلسائه، فقال: ارفع، أحسبه قال لجليسه: ما وجدت موضع التسبيح إلا ها هنا". وسبب إلغاء يونس هذه الصفقة هو خوفه من أن يكون لذلك التسبيح تأثير على المشتري، يجعله يعجّل بالشراء أو يتعامى عن عيوب المبيع.

وبيان ذلك أن رجلاً جاء يطلب ثوبًا، فقال يونس لغلامه: انشر الرزمة. فنشر الغلام الرزمة، وضرب بيده على الرزمة، فقال: صلى الله على محمد. فقال: ارفعه، وأَبَى أن يبيعه مخافة أن يكون مدحه.

ويكشف لنا يونس بن عبيد منهجه في المال، وهو منهج لو اتبعه المسلمون اليوم لاستراحوا كثيرًا، يقول يونس: "إنما هما درهمان: درهم أمسكت عنه حتى طاب لك فأخذته، ودرهم وجب لله تعالى عليك فيه حق فأديته، فالمسلم لا يستحل المال حتى يكون حلالاً طيبًا، ولا يدعه عنده حتى يفوت حق الله فيه".

ويجلس يونس بن عبيد مع صاحبه عبد الله بن عون، فيتكلمان عن الدنيا مثلما نتكلم عنها اليوم، غير أنهما في شغل عما نحن فيه مشغولون، يقول ابن شوذب: "سمعت يونس بن عبيد وابن عون اجتمعا، فتذاكرا الحلال والحرام، فكلاهما قال: ما أعلم في مالي درهمًا حلالاً".

بتلك المحاسبة الدقيقة للنفس والاشتباه فيما كل يملكه من أموال بلغ يونس بن عبيد، تلك المنزلة العالية في الورع، وبهذا الورع دخل يونس بن عبيد باب الزهد والعبادة، فلم يكن يونس من المنقطعين للعلم ولا من هؤلاء المجاهدين في سبيل الله، ولكنه أقبل على نفسه فجاهدها في باب من أبواب العلم عظيم وهو الورع، غير أن ورعه لم يكن مقتصرًا على ورع الدرهم والدينار، ولكنه ورع شمل حياته كلها.

ها هو يضع منهجًا دقيقًا للسانه فيقول: "إنك تكاد تعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم". ويفسر يونس بن عبيد ذلك بقوله: "لا تجد شيئًا من البر يتبعه البر غير اللسان، فإنك تجد الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام، ويقوم الليل ويشهد الزور بالنهار - وذكر أشياء نحو هذا- ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق، فيخالف ذلك عمله أبدًا".

وكما حفظ يونس بن عبيد بطنه من أموال الناس، فإنه حفظ لسانه من أعراض الناس، ها هو يقول: "عمدنا إلى ما يصلح الناس فكتبناه، وعمدنا إلى ما يُصلحنا فتركناه". قال خالد: يعني التسبيح والتهليل وذكر الخير. فهو يضنّ بحسناته أن تذهب للآخرين عبر الغيبة والنميمة وغيرهما من آفات اللسان.

3- محاسبة النفس:

ومن باب الورع ينطلق يونس بن عبيد إلى باب آخر من أبواب العمل الصالح، وهي محاسبة النفس حسابًا عسيرًا، مقتديًا في ذلك بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا".

فها هو يونس بن عبيد يشكو حاله: "ما لي تضيع لي الدجاجة فأجدّ لها، وتفوتني الصلاة فلا أجدّ لها"، وكان يونس بن عبيد قلما تفوته الصلاة. وندرك أنه يقصد بالصلاة هنا تكبيرة الإحرام وليست الصلاة كلها، كما قد يظن البعض.

ويحاسب يونس بن عبيد نفسه على الأوقات المهدرة دون فائدة، فبينما كان جالسًا يومًا مع أصحابه يحدثهم، نظر في وجوههم ثم قال: "لقد ذهب من أجلي وأجلكم ساعة".

ولا يبلغ الإنسان هذه الدرجة من محاسبة النفس إلا إذا كان الموت نصب عينيه، يعلم أنه يطارده وقد يفاجئه في أي زمان أو مكان، وإذا فاجأك الموت أيها الإنسان تراك ماذا أنت فاعل؟ لقد استقبل يونس بن عبيد الموت بالبكاء، ليس بكاء على الدنيا ولا بكاء من الموت.

ولكنه بكاء الصالحين. يقول أحمد بن إبراهيم: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته، فبكى وقال: "قدماي لم تغبرا في سبيل الله". فهذه إذن حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكر طاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرًا لم يشارك فيه، وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكر الله تعالى فيه.

والحق إن في الحديث إلى الجوارح لاسترجاع لواقع المرء الحقيقي الذي غاب عنه، فينظر إلى كل جارحة من جوارحه ويخاطبها: كم من ذنب شاركت فيه؟ وكم من طاعة قصرت عنها؟ وكم من توبة تمنعت عنها؟ وكم من استغفار غفلت عنه؟

4- الإخلاص:

ومن باب محاسبة النفس ينطلق يونس بن عبيد إلى باب الإخلاص، يقول عنه هشام بن حسان: "ما رأيت أحدًا يطلب بالعلم وجه الله إلا يونس بن عبيد".

ومن دلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله، وعدم القيام بالعبودية لملك الملوك، ومقتهم لأنفسهم كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].

يقول يونس بن عبيد عن نفسه: "إني لأعد مائة خصلة من خصال البر، ما فيَّ منها خصلةُ واحدة". مائة خصلة لا يجدها يونس في نفسه؟ فكم نجد نحن في أنفسنا من خصال!!

ويصاحب الإخلاص حياة يونس بن عبيد، فيدخل عليه أحدهم فيقول: "دخلت على يونس بن عبيد أيام الأضحى، فقال: خذ لنا كذا وكذا من شاة. ثم قال: والله ما أراه يتقبل مني شيء، قد خشيت أن أكون من أهل النار".

يقدم العمل ثم يخشى على نفسه من النار وعدم القبول، ليس كمثل أحدنا اليوم لا تجده يعمل وتجده في الوقت ذاته أَمِن على نفسه من النار، يقول الذهبي: "كل من لم يخش أن يكون في النار، فهو مغرور قد أمن مكر الله به".

ويقول يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات: "لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم، إني أخشى أنهم حرموا بسببي". عبارات تنطق بنفسها، ولا تحتاج منا إلى تعليق.

ويشتهر أمر يونس بن عبيد وورعه وصلاحه، فيراسله أهل العلم والعبادة، إلا أنه لا يقابل تلك الشهرة إلا بمزيد من التواضع ومقت النفس، يقول جعفر بن برقان: "بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح، فكتبت إليه:

يا أخي، اكتب إليّ بما أنت عليه. فكتب إليه: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذاك بعيد، ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير، فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة، أيسر عليها من ترك ذكرهم، هذا أمري يا أخي والسلام".

5- اهتمامه بالناس:

ولم يكن يونس بن عبيد منقطع عن الناس، بل كان رجل عامة يدعوهم إلى الإيمان ويرشدهم إلى الصلاح ويتألم لحالهم، يقول أحد أصحابه: "أتيت يونس بن عبيد فخرج إليّ فقعد على باب الدار، فإذا هو كئيب حزين، قال: قلت: يا أبا عبد الله، ما الذي أرى بك؟ قال: فسكت مليًّا، ثم رفع رأسه فقال: ذاك والله ما أرى في العامَّة" (المعرفة والتاريخ للفسوي).

ويتألم لآلام المرضى، يقول عبيد الله بن سلام الباهلي: سمعت يونس بن عبيد يقول: "لو أصبت درهمًا حلالاً من تجارة لاشتريت به برًّا، ثم صيرته سويقًا ثم سقيته المرضى".

ولا يتوقف الأمر عند الشعور بمصابهم، بل يزيد الأمر على ذلك إلى تربيته للآخرين، فهذا "يونس بن عبيد" يقصده رجل شاكيًا فقره وحاله، فيسأله يونس: "أيسرّك أن يذهب بصرك وتعطى مائة ألف؟ " فيجيب الرجل: لا. فيسأله يونس: "أيسرّك أن يذهب سمعك، وتعطى مائة ألف؟ " فيقول الرجل: لا. فيسأله: "أيسرك أن يذهب عقلك ولسانك وتعطى مائة ألف؟ " يقول الرجل: لا. وهنا ضحك (يونس) وقال للرجل: "انظر إذن كم معك من مئات الألوف وأنت تشكو الحاجة"!!

ويأتي إليه رجل آخر يشكو إليه وجعًا في بطنه، فقال: "يا هذا، إن هذه الدنيا دار لا توافقك، فالتمس دارًا توافقك".

هكذا يوجه يونس بن عبيد الشاكي إلى الاهتمام بأمر الآخرة، متبعًا في ذلك منهج التربية بالموقف.

ويمر يونس بن عبيد على قوم يختصمون في القدر، فيقول لهم: "لو شغلتكم ذنوبكم ما اختصمتم في القدر". هنا يوجه يونس بن عبيد هؤلاء النفر إلى ما يهمهم وينفعهم في الدنيا والآخرة.

وعرف يونس بن عبيد لما لأهل البدع من خطر وخطورة، فحذّر منهم ومن مجالستهم. فها هو رجل يأتيه فيقول له: "أتنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد وقد دخل عليه ابنك قبل؟ فقال له يونس: اتق الله! فتغيظ، فلم يبرح أن جاء ابنه فقال: يا بني، قد عرفت رأيي في عمرو، فتدخل عليه. فقال: يا أبت، كان معي فلان فجعل يعتذر إليه. فقال: أنهاك عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، ولأنْ تلقى الله عز وجل بهن أحب إليَّ من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو".

هذه بعض مواقف من حياة يونس بن عبيد رحمه الله، تظهر لنا الصورة الأكمل والأشمل للإسلام، فالمسلم الحق من يحكم الإسلام على سلوكه في مناحي الحياة كلها، من بيع وشراء وتجارة وغيرها.

ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

المصدر: موقع المسلم